العمل التطوعي في الأرض المحتلة: انطلاق التراث إلى الفعل السياسي والمؤسسي

ارتبط العمل التطوعي بتطور القضية الفلسطينية والمسار الوطني والتحرري لها، إذ انه شديد الإلتصاق والإتساق بها. فمن الجمعيات الخيرية والثقافية، مروراً بالجمعيات السياسية في الفترة العثمانية وحقبة الانتداب البريطاني، وصولاً إلى الاحتلال “الإسرائيلي” وتشكل أنوية سياسية مؤطرة وجمعيات طابعها اجتماعي وتطوعي ولكنها شديدة الصلة بالمشروع الوطني ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد وصلت تجربة العمل التطوعي مداها في السبعينيات والثمانينات إبان الانتفاضة الأولى، كما واستطاعت لجان العمل التطوعي حشد عشرات الآلاف من المتطوعين للقيام بالأنشطة الوطنية والمجتمعية.

ومع التحولات وحالة التراجع التي لفت مجمل مسيرة الحركة الوطنية نتاج توقيع اتفاقية أوسلو، تراجعت بدورها الحركة التطوعية وقوتها وقدرتها على الحشد والتغيير، حتى أصبح العمل التطوعي مساقاً في الجامعات الفلسطينية، على أهميته، ولكنه انحصر في بعض المساقات، وحول بعض مؤسسات العمل الأهلي التي عملت جزئياً عبر متطوعين، وانتقلت إلى حالة “المهننة” بالاعتماد على الموظفين والمهنيين والخبراء، مع الاتكاء أحياناً على المتطوعين الشباب للقيام ببعض الأنشطة والمشاريع والبرامج المختلفة. ومن هنا يتجلى مدى اتساع النقد من قبل هؤلاء المتطوعين حول استغلالهم أحياناً دون وجود مقابل مادي أو معنوي مناسب وملائم لهم. هذه الحالة عنت بالضرورة تراجع قيم ومبادئ العمل التطوعي التي قامت على بذل الجهد والوقت والمال في سبيل خدمة القضايا الجمعية والوطنية، وبناء المجتمع عبر مساهمات في مجال الإنتاج والتعليم والفنون والبيئة؛ بل إن جل الأحزاب السياسية بنيت بجهود وسواعد سياسيين بذلوا كل حياتهم خدمة للقضية.

ويمكن القول إن مفهوم العمل التطوعي قد انحسر لدى غالبية الشباب بسبب تحول المفاهيم في العقدين الأخيرين، حيث كان العمل التطوعي يساهم في المحافظة على زراعة الأرض من خلال الحملات التي كان تقوم بها المنظمات الأهلية والاتحادات الشبابية التابعة للأحزاب والفصائل الفلسطينية مثل قطف الزيتون وما شابه من المواسم الزراعية المختلفة.

إلا أن التمويل والدعم الأجنبي أدى إلى الإسراع في تحول كان يأخذ مجراه، ألا وهو التحول من الإيديولوجيات الراديكالية للحركات الشعبية إلى أحاديث تقتصر بشكل محدد على التنمية، وأصبحت المنظمات غير الحكومية منفصلة عن التنظيمات السياسية، ومنعزلة عن القاعدة الشعبية، وكفت عن الوجود عملية التنظيم الجماهيري؛ حيث ألغي مفهوم العمل التطوعي وأصبح الشباب لا يعون مفاهيم المحافظة على الأرض والعمل التطوعي وأهمية الزراعة. وبعد انعقاد مباحثات السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 وإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، بدأت مرحلة جديدة ومميزة في التاريخ الفلسطيني على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبدأ الحديث عن تشكل مجتمع مدني في الضفة والقطاع، ضمن النظام الجديد، النظام الرأسمالي الليبرالي. والذي يدلل، بل ويؤكد على شخصية النظام الاقتصادي للمجتمع المدني. يتسم هذا النظام بالخلل، فهو لا يقترح أكثر من وجود سلسلة من الدوائر الفعالة تتجه في سيرها من الدولة إلى الاقتصاد عبر المجتمع المدني، ومن الاقتصاد إلى المجتمع المدني عن طريق الدولة.[i]

ونجد تأكيداً لهذا في دراسة إحصائية أجريت في نهاية العام 2000 حول أسباب انحسار العمل التطوعي،[ii] وحول العلاقة ما بين التطوع والسياسة ومدى تقدم أو تراجع العمل التطوعي بالعلاقة مع التطورات السياسية. وكما ورد فيما خلصت إليه الدراسة المذكورة، نلاحظ أن أغلبية المستطلعة آراءهم أشاروا إلى تراجع العمل التطوعي بعد نشوء السلطة الوطنية، حيث أكد 68.3% من المبحوثين على هذا التراجع، بينما في المقابل أشار 31.7% إلى عدم موافقتهم على ذلك، في حين أكد معظمهم على أن العمل التطوعي كان أكثر تطوراً خلال مرحلة الاحتلال “الإسرائيلي” ومرحلة الإنتفاضة1987-1992.